أصول الفقه – يوم الثلاثاء ١٢ جمادى الثانية ١٤٤٥

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.

خلاصة الأبحاث الماضية

كان البحث في ما ذكره بعض الأصحاب من أنّ حكم الملاقي وحكم الملاقى يتبادلان في بعض الحالات النادرة، يعني أنّ الثوب الذي قالوا بعدم وجوب الاجتناب عنه يصبح واجب الاجتناب، والملاقى يعني ألف الذي قالوا بوجوب الاجتناب عنه يصبح غير واجب الاجتناب.

وقالوا بأنّ هذا يصلح في ما إذا حصلت مراحل أربعة: المرحلة الأولى ملاقاة الثوب بألف من دون أيّ علم إجماليّ، والمرحلة الثانية يخرج فيه ألف عن محلّ الابتلاء، وفي المرحلة الثالثة يحصل العلم الإجماليّ بأنّه إمّا هذا الذي خرج عن محلّ الابتلاء نجس أو باء، ثمّ في المرحلة الرابعة رجع ألف إلى محلّ الابتلاء، فإذا تتابعت هذه المراحل الأربع بهذه الصورة قالوا ينتهي الأمر إلى أنّ الثوب يجب الاجتناب عنه وألف لا يجب الاجتناب عنه.

وقال أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه يجب أنّ نتكلّم ذلك ضمن ثلاث جهات.

الجهة الأولى في بيان حكم الثوب قبل المرحلة الرابعة بعد المرحلة الثالثة.

والجهة الثانية في تعيين حكم ألف بعد رجوعه إلى محلّ الابتلاء.

والجهة الثالثة في تعيين حكم الثوب بعد رجوع ألف إلى محلّ الابتلاء.

وانتهينا من الجهة الأولى وكانت النتائج في هذه الجهة أنّ حكم هذا الثوب قبل المرحلة الرابعة على مبنى السيّد الخوئيّ والمحقّق العراقيّ والمحقّق النائينيّ يجب الاجتناب عنه وعلى مبنى الشيخ الأنصاري لا يجب.

الجهة الثانية في بحث التبادل في الحكم بين الملاقي والملاقى

والآن نتحوّل إلى الجهة الثانية وهو تعيين حكم ألف بعد رجوعه إلى محلّ الابتلاء، لنجد أنّ الرجوع إلى محلّ الابتلاء هل يؤثّر شيئاً في الحساب أو لا؟ وهذا أيضاً يختلف باختلاف المباني الأربعة.

الجهة الثانية حسب مبنى السيّد الخوئي رضوان الله عليه

أمّا على مبنى السيّد الخوئي الذي يقول إنّ الميزان في الانحلال هو التقدّم والتأخّر الزمانيّ – وإذا كان أحد العلمين الإجماليّين المشتركين في طرف واحد أسبق زماناٌ من الآخر فينحلّ العلم الإجماليّ الثاني – فعلى هذا المبنى لا يجب الاجتناب عن ألف، لا بتأثير من الرجوع إلى محلّ الابتلاء بل لأنّ أحد طرفي العلم الإجماليّ بين ألف وباء قد سقط الأصل المؤمّن فيه في زمان سابق؛ إذ قلنا في الجهة الأولى إنّ العلم الإجماليّ [الثاني] على مبناه يكون منجّزاً وإذا كان كذلك فالعلم الإجماليّ الأوّل لا يمكنه أن يكون منجّزاً. وبعبارة أخرى إنّ تنجّز العلم الإجماليّ الثاني يعني أنّ الأصل العمليّ سقط في باء والثوب (كليهما) بتنجيز هذا العلم الإجماليّ، إذاً هذا العلم الإجماليّ الأوّل سواء رجع إلى محلّ الابتلاء أو لم يرجع ساقط؛ لأنّ الأصل المؤمّن في أحد طرفيه (وهو باء) سقط بالعلم الإجماليّ الذي لم ينحلّ، وهذا يعني أنّه تجري البراءة عن ألف فلا يجب الاجتناب عنه بعد رجوعه إلى محلّ الابتلاء.

الجهة الثانية حسب مبنى الشيخ الأنصاري رضوان الله تعالى عليه

وأمّا على مبنى الشيخ الأنصاريّ فقد يقال بوجوب الاجتناب عن ألف من دون تأثير الرجوع إلى محلّ الابتلاء – بخلاف ما انتهينا إليه حسب مبنى السيّد الخوئيّ حيث كان المؤثّر في الانحلال على مبناه التقدّم والتأخّر الزمانيّ – لأنّ العلم الإجماليّ الأوّل باق وأوجب انحلال العلم الإجماليّ الثاني على مبناه.

ولكن في مقابله قد يقال بأنّ الملاقى (أي الف) تجري البراءة عنه بلحاظ ولا تجري بلحاظ آخر، فالعلم الإجماليّ الأوّل ينحلّ بلحاظ ولا ينحلّ بلحاظ، فبلحاظ بعض آثار الطهارة تجري أصالة الطهارة فيه، وبلحاظ بعض آخر منها لا تجري، وهذا يعني أنّ العلم الإجماليّ بين ألف وباء قد انحلّ بلحاظ ولم ينحلّ بلحاظ آخر.

وتوضيح ذلك:

هناك بحث عامّ مبحوث في محلّه يطبّقه أستاذنا الشهيد في ما نحن فيه، فنوضّح أوّلاً هذا البحث الذي يطبّقه أستاذنا الشهيد حتّى يصل إلى هذه النتيجة من أنّ أصالة الطهارة تجري بلحاظ بعض آثار الطهارة ولا تجري بلحاظ بعض آخر.

والبحث المبحوث في محلّه – مع غضّ النظر عن ما نحن فيه – هو أنّه قد يمكن التفكيك في الحكم الظاهريّ بين الشيئين اللذين حكمهما الواقعيّ متلازمان، ومثاله ما إذا علمنا شيئين معيّنين حكمهما واحد، إمّا كلاهما طاهران وإمّا كلاهما نجسان، وافرضوا مثلاً أنّه لو لاقى هذان الشيئان شيئاً ثالثاً إذا كان هذا الشيء الثالث طاهراً لم يتنجّسا وإذا كان نجساً فقد تنجّسا، إذاً فهما إمّا نجسان معاً أو طاهران معاً، ولكن كان أحدهما مسبوقاً بالطهارة فيجري فيه استصحاب الطهارة والآخر مسبوقاً بالنجاسة فيجري فيه استصحاب النجاسة، فهذا تفكيك بين المتلازمين ظاهراً مع أنّ حكمهما الواقعيّ متلازمان، فبحسب الحكم الظاهري يجري ما ذكر في كلّ منهما.

وهذا مبحوث في علم الأصول وقالوا بإمكانه؛ لأنّ الحكم الظاهريّ لا يثبت الواقع حتّى يقال «إن ثبت ذاك فهذا يثبت أيضاً، وإذا ثبتت الطهارة ففي كليهما تثبت وإذا ثبتت النجاسة ففي كليهما تثبت». فالاستصحاب لا يثبت الحكم الواقعيّ، وإنّما يثبت الحكم الظاهريّ فقط، ويمكن أن نتعبّد في الحكم الظاهريّ بنجاسة أحدهما ظاهراً ونتعبّد بطهارة الآخر ظاهراً، رغم أنّ حكمهما الواقعيّ مشترك.

فأستاذنا الشهيد يطبّق هذه الفكرة على محلّ البحث، فيقول إنّ ألف خرج عن محلّ الابتلاء بلحاظ الآثار المباشرة – وسبق وأن أشرنا إلى ذلك – وأمّا حكم الثوب وحكم الأحكام الأخرى المنتهية والمترتّبة على الثوب بلحاظ الآثار المترتّبة على ألف بشكل غير مباشر فلم يخرج عن محلّ الابتلاء، ونحن نعلم أنّ آثار الطهارة بلحاظ آثارها المباشرة والآثار غير المباشرة على حدّ سواءّ، لأنّ «ألف» إن كان طاهراً [واقعاً] فتترتّب كلّ من آثاره المباشرة وغير المباشرة، وإذا كان حكمه الواقعيّ النجاسة تزول كلّ آثاره [من المباشرة وغير المباشرة]، فلا يوجد اختلاف في حكمه الواقعيّ، ولكن أصالة الطهارة بلحاظ الآثار المباشرة لا تجري؛ لأنّه خارج عن محلّ الابتلاء، وبلحاظ الآثار غير المباشرة هو في محلّ الابتلاء فتجري أصالة الطهارة، يعني أنّه صار في أصالة الطهارة تفكيك، فهذا العلم الإجماليّ بين ألف وباء ينحلّ بلحاظ ولا ينحلّ بلحاظ آخر تطبيقاً لهذه الفكرة.

هذا القول الثاني الذي قد يقال [على مبنى الشيخ الأنصاري رحمه الله]، ولكنّ أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه يقول إنّ مقتضى التحقيق هو التفصيل، وسيأتي توضيحه في الدرس القادم إن شاء الله.

والحمد لله ربّ العالمين.