أصول الفقه – يوم السبت ١٩ ربيع الثاني ١٤٤٥
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.
خلاصة البحث
قلنا إنّ ما ذكره الشيخ الأعظم لبيان جواز الممارسة للثوب الملاقي لأحد أطراف العلم الإجماليّ يبتني على جريان الأصل المؤمّن في الثوب بدون معارض على أساس كون الأصل في الثوب متأخّراً رتبةً عن الأصل الجاري في معارضه (أي باء)، لا زماناً كما قاله السيّد الخوئيّ. فيقع التعارض والتساقط بين الأصل الجاري في ألف والأصل الجاري في باء في رتبة سابقة، ولا تصل النوبة إلى إسقاط الأصل المؤمّن في الثوب فيجري بدون معارض.
وقلنا إنّ هذا البيان يبتني على أمور أربعة، والأمر الأوّل أن يكون تأثير العلم الإجماليّ على نحو الاقتضاء لا العلّيّة وهذا ما نقبله.
والأمر الثاني أن يكون اختلاف الرتبة كافياً لنجاة المتأخّر رتبة عن التعارض.
والأمر الثالث أن يكون الأصل الجاري في الثوب متأخّراً بالفعل عن الأصل الجاري في معارضه وهو باء حتّى يتمّ صغرى ما يؤمن به من كون أنّ الأصل إذا كان متأخّراً ينجو عن التعارض.
والأمر الرابع ما قرأنا عبارته وسيظهر مراد أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه فيه.
فلا بدّ من أن نبحث في كلّ هذه الأمور الأربعة.
أمّا الأمر الأوّل فنحن موافقين عليه كما ذكرنا.
الأمر الثاني من الأمور الأربعة الدخيلة في صحّة رأي الشيخ الأعظم
وأمّا الأمر الثاني [وهو أنّ الطوليّة في الرتبة يستلزم عدم سقوط الأصل الطوليّ بالمعارضة] فأورد عليه السيّد الخوئيّ بإيرادين ويستعرضهما أستاذنا الشهيد ويناقشهما.
الإيراد الأوّل في الأمر الثاني
الإيراد الأوّل للسيّد الخوئيّ رضوان الله تعالى عليه هو أنّ اختلاف الرتبة لو سلّمنا تأثيره ولكنّ الاختلاف يكون بين الأصل الجاري في الثوب والأصل الجاري في ألف، لا الأصل الجاري في باء، فـ[الأصل الجاري في] الثوب – الذي بملاقاته لطرف ألف صار طرفاً لعلم إجماليّ ثان بينه وبين باء – فهو في رتبة متأخّرة عن الأصل الجاري في ألف، وليس متأخّراً رتبة عن الأصل الجاري في باء، فلا مانع من تحقّق علم إجماليّ بين الأصل الجاري في الثوب والأصل الجاري في باء، ولا اختلاف رتبيّاً بينهما، وإنّما اختلاف الرتبة يكون بين الأصل الجاري في الثوب والأصل الجاري في ألف، فلا مانع من جريان علم إجماليّ جديد بين نجاسة الباء ونجاسة الثوب، فيتعارضان ويتساقطان بهذا العلم الإجماليّ الثاني وبالتالي يخلو الثوب عن الأصل.
المناقشة في الإيراد الأوّل
وأستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه يناقش هذا الإيراد مناقشة ثبوتيّة فنّيّة، وإن كانت الأصول الأوّليّة لهذه المناقشة غير مقبولة عرفاً.
ويستفيد في مناقشته ممّا سبق في أبحاثه السابقة من كون فكرة التزاحم الحفظيّ – الذي بحثها في بحث الجمع بين الحكم ظاهريّ والواقعيّ – تستوجب إمكانيّة جعل الأصل المؤمّن من طرف المولى في كلا طرفي العلم الإجماليّ وإن أدّى ذلك إلى المخالفة القطعيّة؛ لأنّه يؤدّي إلى المخالفة القطعيّة بتضحية التكليف المعلوم بالإجمال في مقابل الاحتفاظ بملاك الإباحة إذا كانت الإباحة اقتضائيّة، وقلنا إنّ هذا معقول ممكن في رأي أستاذنا الشهيد في ضوء فكرة التزاحم الحفظيّ؛ لأنّ التزاحم الحفظيّ يعني أنّ المولى في مقام التشريع يضحّي بعض الملاكات في سبيل بعض الملاكات. وفي أطراف العلم الإجماليّ يمكن له أن يضحّي بالملاك الإلزاميّ المعلوم إجمالاً في سبيل الحفاظ على ملاك الإباحة إذا كانت الإباحة اقتضائيّة.
فإنّ هذا ممكن ثبوتاً خلافاً للمشهور الذين يقولون إنّ جعل الأصل المؤمّن في كلا طرفي العلم الإجماليّ غير صحيح عقلاً؛ لأنّه يؤدّي إلى المخالفة القطعيّة، فيقول أستاذنا الشهيد: إنّه ممكن وإن أدّى إلى المخالفة القطعيّة في سبيل الاحتفاظ بملاك الإباحة. وهذا يعني أنّ الأصل الجاري في ألف والأصل الجاري في باء يمكن إجراؤهما معاً ثبوتاً بهذا البيان، فيمكن أن يجعل الشارع الأصل المؤمّن في ألف ويجعله أيضاً في باء وأحدهما يكون أسبق رتبة عن الأصل الجاري في الثوب والآخر ليس أسبق، فقد يصحّ بهذا اللحاظ كلام السيّد الخوئيّ عندنا لا عنده؛ لأنّه لا يقبل أنّ الأصل الجاري في ألف مستقلّ عن الأصل الجاري في باء، فبالإمكان أن يجري أحدهما ولا يجري الآخر وبالإمكان أن يجريا معاً ثبوتاً.
ولكنّه يتمّ هذا الكلام على مبانينا لكن إنّما يتمّ ثبوتاً لا في الفهم العرفيّ؛ لأنّ الفهم العرفيّ لا يتقبّل أن يكون مصلحة الإباحة أقوى من مصلحة إلزاميّة معلومة بالإجمال.
فمن المعقول [عرفاً] أن يكون ملاك الإباحة أقوى من الإلزام الاحتماليّ في الحكم الإلزاميّ إذا كان هذا الحكم الإلزاميّ احتماليّاً غير معلوم بالإجمال، ولكن ما دام ملاك الإلزام معلوماً بالعلم الإجماليّ فليس مقبولاً عرفاً أن يكون المولى يضحّي بهذا الحكم الإلزاميّ المعلوم بالعلم الإجماليّ في سبيل الحفاظ على ملاك الإباحة، إذاً فنحن لا نقبل ذلك [أي جريان الأصل المؤمّن في جميع أطراف العلم الإجمالي] بالمحذور العرفيّ لا العقليّ؛ فإنّه لا يوجد لدينا محذور عقليّ من أن يكون لأحد من الأصلين الجاريين في ألف وفي باء اختلاف رتبيّ والآخر ليس له هذا الاختلاف، فإنّ إشكال السيّد الخوئيّ كان هذا، (وهو) أنّ أحدهما يبتلى بالاختلاف الرتبيّ والآخر لا يبتلى به.
فالإيراد الأوّل للسيّد الخوئيّ على الأمر الثاني من الأمور الأربعة غير تامّ بحسب الفهم الثبوتيّ الدقيق العقليّ، وإن تمّ حسب الفهم العرفيّ.
فهذه المناقشة الأولى من السيّد الخوئيّ مع ردّ أستاذنا الشهيد عليها.
وأمّا المناقشة الثانية للسيّد الخوئيّ حاصلها أنّه لا تأثير لاختلاف الرتبة أساساً؛ لأنّ ظرف هذه الأصول ظرف زمانيّ لا رتبيّ. وهذا ما سيأتي توضيحه في الدرس القادم.
والحمد لله ربّ العالمين.