أصول الفقه – يوم السبت ٥ ربيع الثاني ١٤٤٥
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.
كان الكلام حول ملاقي بعض أطراف العلم الإجماليّ، مثل ما إذا علمنا إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين ألف وباء، ثمّ لاقى ثوبي الإناء ألف فهل يجب عليّ الاجتناب من هذا الثوب أو لا؟
وقلنا يوجد هنا علمان إجماليّان، علم إجماليّ بنجاسة إمّا ألف أو باء والعلم الإجماليّ الثاني بنجاسة إمّا باء أو الثوب. فيقع الكلام حول هذا العلم الإجماليّ الثاني أنّه هل يبقى منجّزاً وموجباً للاجتناب عن الثوب أو لا؟
وذكرنا أنّه يوجد تقريبان لعدم منجّزيّة هذا العلم الإجماليّ الثاني وبالتالي عدم وجوب الاجتناب عن الثوب.
التقريب الأوّل مضى شرحه وبحثه والردّ عليه وكان حاصله دعوى أنّ هذا داخل في بحث ما إذا اشترك علمان إجماليّان في طرف واحد.
التقريب الثاني لإثبات جريان الأصل المؤمّن في ملاقي أحد أطراف العلم الإجمالي
أمّا التقريب الثاني فحاصله أنّ العلم الإجماليّ الأوّل سبّب تساقط الأصل المؤمّن في ألف والأصل المؤمّن في باء. وصار الثوب يجري فيه الأصل المؤمّن بدون معارض.
الإشكال في التقريب الثاني
وهذا التقريب فيه بحث ونقاش، وذلك لأنّ لقائل أن يقول: إنّ هذا الثوب يندمج مع الماء الأوّل (ألف) والأصل المؤمّن فيهما معاً يتعارضان مع الأصل المؤمّن في باء، فليس التعارض من أوّل الأمر في طرفي العلم الإجماليّ بين الأصل المؤمّن في ألف والأصل المؤمّن في باء حتّى يسقط الأصل المؤمّن في باء ويبقى الأصل المؤمّن في الثوب بدون معارض، بل الأصل المؤمّن في الثوب والأصل المؤمّن في ألف واقعان معاً طرفاً للتعارض مع الأصل المؤمّن في باء، فلا يبقى أصل مؤمّن لا في ألف ولا في باء ولا في الثوب.
الجواب عن الإشكال في التقريب الثاني
والجواب عن هذا الإشكال أنّه لا بدّ من أن نجد أوّلاً أنّ هذا الثوب هل يملك أصلاً مؤمّناً حتّى نبحث في أنّ هذا الأصل المؤمّن مع الأصل المؤمّن في ألف يقعان معاً طرفاً للتعارض للأصل المؤمّن في الباء أو لا؟
فإذن لابدّ وأن نبحث أوّلاً أنّه مع غض النظر عن التعارض الحاصل من العلم الإجماليّ ماذا هو الأصل المؤمّن الذي يمتلكه هذا الثوب بطبعه قبل مجيء العلم الإجماليّ الأوّل؟ وهل يمتلك أصلاً مؤمّنا أو لا؟ وبعد ذلك نلاحظ العلم الإجماليّ ونبحث عمّا يصنع هذا العلم الإجماليّ لهذا الثوب.
فنقول: إنّ هذا الثوب شكّه شكّ مسبّبيّ مسبّب عن الشكّ في ألف.
وسبق في الدروس الماضية أمثلة البحث في الشكّ السببيّ والمسبّبي، كما إذا كان لدينا ماء مستصحب الطهارة وثوب نجس قد غسلناه بهذا الماء المستصحب الطهارة، فلو لا فكرة الأصل السببيّ والمسبّبي فالاستصحاب الجاري في الماء يكون استصحاب الطهارة والاستصحاب الجاري في الثوب يكون استصحاب النجاسة؛ لأنّه قد غسلناه بماء لا نعرف أنّه طاهر أو نجس، [فلا يزال مشكوك الطهارة مسبوق النجاسة] فيجري فيه استصحاب النجاسة. ولكن بما أنّ الشكّ في الماء سببيّ والشكّ في الثوب الذي غسلناه بهذا الماء مسبّبيّ، فإجراء استصحاب الطهارة في الماء يُثبت طهارة الثوب باليقين التعبّدي (لا الوجدانيّ)، فأنّ استصحاب الطهارة في الماء يوجب يقيناً تعبّديّاً بأنّ الثوب قد تطهّر.
ولا مجال للإشكال بأنّ مستلزمات الأصول غير حجّة؛ لأنّا قلنا في هذه المستلزمات: إنّ المستصحب هو الذي تكون لوازمه غير حجّة، وهذا ليس من لوازم المستصحب بل من لوازم نفس الاستصحاب، وإذا كان اللازم من لوازم نفس الاستصحاب فيثبت رغم كون الاستصحاب من الأصول وليس من الأمارات. فهذا بحثه في محلّه.
وما نحن فيه من هذا القبيل، لأنّ الشكّ في ألف فيما نحن فيه يكون سببيّاً والشكّ في الثوب مسبّبيّ، لأنّ الشكّ في ألف هو الذي سبّب الشكّ في الثوب؛ لأنّ الثوب لاقى ألفاً.
فالشكّ في ألف – مع غضّ النظر عن العلم الإجماليّ – يجري فيه الأصل المؤمّن، ويوجب عندئذٍ يقيناً تعبّديّاً بطهارة هذا الثوب، يعني أنّ أصالة البراءة التي نجريها في الشكّ السببيّ في ألف يسبّب هذا اليقين [التعبديّ] في الثوب، كما مرّ في مثال الثوب المغسول بالماء المستصحب الطهارة.
فبالتالي لا يبقى شكّ في الثوب بعدئذ؛ لأنّ الشكّ فيه تحوّل إلى اليقين التعبّديّ، فلا حاجة فيه إلى أصل مؤمّن، بل إنّ هذا الثوب حصل على يقين تعبّدي بالطهارة.
هذه حال الثوب قبل أن يأتي دور تساقط الأصول بسبب العلم الإجماليّ الأوّل، وإذا جاء العلم الإجماليّ يَرى أنّه يوجد شكّ صالح للأصل المؤمّن في ألف وشكّ صالح له أيضاً في باء، ولا يوجد شكّ صالح للمؤمّن في الثوب، وإنّما يجد أنّه يوجد في هذا الثوب يقين تعبّديّ بالطهارة بطبعه. فهذا العلم الإجماليّ حينما يأتي لا يؤثّر على الثوب؛ لأنّه يجد أنّ الثوب لا يملك أصلاً مؤمّناً صالحاً للجريان فيه وإنّما يملك بطبعه اليقين التعبّدي بالطهارة.
وعليه فهذا العلم الإجماليّ عندما يأتي ويتولّد منه علم إجماليّ ثانٍ بأنّه إمّا باء نجس أو الثوب، والثوب له يقين تعبّديّ بالطهارة بطبعه، والطرف الآخر وهو الباء يتساقط مع الأصل المؤمّن الجاري في ألف بسبب العلم الإجماليّ، فلا يبقى شيء يؤثّر على الأصل المؤمّن في هذا الثوب. فهذا الثوب إنّما يفقد اليقين التعبّدي الذي كان له لمجيء العلم الإجماليّ الذيّ سبّب التساقط بين الشكّ السببيّ الذي تحدّثنا عنه وهو الذي يكون في ألف.
فالشبهة التي تقول: إنّ الأصل المؤمّن لألف والأصل المؤمّن للثوب يقعان طرفاً للتعارض معاً مع الأصل المؤمّن للباء تزول؛ لأنّه مع غضّ النظر عن هذا العلم الإجماليّ لا يوجد عندنا أصل مؤمّن للثوب، بل حكم الثوب لولاه هو اليقين بالطهارة، ومع ثبوت هذا اليقين التعبّديّ بالطهارة لا تصل النوبة إلى الأصل المؤمّن.
وعليه فمتى جاء العلم الإجماليّ فإنّه لا يرى الثوب صالحاً للطرفيّة فيه، وبالتالي نرجع إلى ما قلنا في أصل هذا التقريب من أنّه بعد مجيء العلم الإجمالي وسقوط الأصلين المؤمّنين يرجع الشكّ في الثوب. فإنّ العلم الإجمالي يسبّب سقوط الأصل السببيّ وزوال اليقين التعبّديّ الذي ذكرناه، فيرجع فيه الشكّ الذي كان خارجاً عن إطار هذا العلم الإجماليّ؛ فإنّا قرأنا في أركان منجّزيّة العلم الإجماليّ أنّه لا بدّ وأن يكون أطراف العلم الإجماليّ في نفسه صالحة للأصل المؤمّن قبل مجيء العلم الإجماليّ، وهذا الثوب هنا لم يكن له صلاحية للأصل المؤمّن قبل مجيئه وكان حكمه قبل العلم الإجمالي هو اليقين التعبّديّ بالطهارة، وعليه فحين ما يجيء العلم الإجماليّ لا يستطيع أن يصحب الثوب إلى جنبه في التنجيز فهذا الثوب لا يدخل في التنجيز الحاصل بالعلم الإجماليّ الثاني الناشئ من العلم الإجماليّ الأوّل.
هذا تأييد ودعم للتقريب الثاني، وينبّه أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه بعد هذه أنّ ما أوردناه على التقريب السابق – من أنّه يختصّ بحالة تأخّر العلم الإجماليّ الثاني عن العلم الإجماليّ الأوّل ولا يجري فيما إذا تعاصرا (أي النتيجة أخصّ من المدّعى) – لا يجري على هذا التقريب الثاني. فإنّ التقريب السابق كان يعتبر مورد بحثنا مورداً من موارد فكرة اجتماع علمين إجماليّين في طرف واحد، وسبق وأن بحثنا في ذاك البحث من أنّ هذا إنّما يتمّ فيما إذا تأخّر أحد العلمين الإجماليّين عن الآخر، أمّا إذا تعاصرا فلا يتمّ فيه ما ذكرنا في ذاك البحث. وبما أنّ التقريب الأوّل أدخل بحثنا هذا كمصداق من مصاديق البحث في اشتراك العلمين الإجماليّين على طرف فيختصّ بما إذا تأخّر العلم الإجماليّ الثاني زماناً عن الأوّل.
والحمد لله ربّ العالمين